ترانيم قلم

أكيد أن جدّي كانت له دوافع خفيّة لها علاقة بما سيأتي
لا يمكن فهم ذلك آنذاك بالنسبة لي ..ماكنت أعرفه كان شيئا طبيعيا تربيت عليه ...كان شيئا مألوفا
لا أحب التعميم لكنني واثق مما أقول فجُلّ المهاجرين إلا من رحم الله يعيشون حياة غربية
يشاركون أهل البلد كلّ شئ
يشاركونهم لغتهم فلا يتكلمون غير الفرنسية ...وابن المهاجر مهما كان سنه لا يفقه في العربية شيئا ...ولا يعلمون شيئا عن الثقافة العربية ...لأنهم دخلوا مدراس فرنسية وهي كلّها لائكية علمانية لا تعير للدين اهتماما

رآنيا معجب بهذا

إمبراطورة البحر معجب بهذا

هناك يتشرّب الفرنسيون والمتفرنسين اللائكية laïcité على أصولها منذ الحداثة.. وتنعكس تصوراتها على الفرد والمجتمع
ولعل من مبادئ الثورة الفرنسية :الحرية هذا الشعار سيتبلور فيما بعد في نهاية القرن التاسع عشر حيث ستتوحش العلمانية وستبرِز مخالبها والضحايا للأسف من ذوي الجذور الإسلامية...وكنت أعرف من غيّروا دينهم ومنهم من ارتموا في غياهب الإلحاد...كيف لا ؟ وللطفل عندهم حريّة اختيار الفلسفة التي تحلو له ولا يحقّ للوالدين التدخل في اختياراته
وإذا خالف الآباء ذلك قد يتعرضون لعواقب وخيمة ...منها انتزاع حق الكفالة ليلتحق الولد بالأخصائية الإجتماعية ..والملجأ وهناك سيتم طمس هويته على مهل

وقفتُ شامخا كالجبل وقلت :أنتم تضيّعون وقتكم في الحوار فالأمر محسوم
هل أنت مجنون؟ قال المتدخّلون؟(من خارج أفراد اسرتي)
طبعا فهم يعتقدون أن باريس كما قال طه حسين مفتونا بها (انها بلد الجن والملائكة) أما أنا فأقول أنها بلد الجن فقط
فكل شئ مفتوح على مصراعيه ...ويمكنني أن أكتب مما مرّ أمام عيني ما لا تطيقه الأذواق السليمة
قلت فالمجنون هو من يعود إلى هناك ...هكذا كان ردي على المتدخلين
نعم أقرأ في أعينهم أوهاما كثيرة ...فهم يحسبون أن السماء هناك تمطر ذهبا ...والإسفلت هناك من العاج
والحيطان من الفضة ....الخ

رفع القاضي الجلسة ...وسقت نفسي إلى محبسها مدندنا وكأنني فيلسوف صغير :في الغرب ماتحلو الحياة به وفي الشرق مالا تحلو الحياة إلا به.....حلاوة الأول زائلة وحلاوة الثاني أبدية
دندنة لم يسمعها أحد ...وإن سمعها أحد فلن يفهمها إلا جدي

بعد ان أخذت قسطا من الراحة أستجمع قواي وألملم ما تبقى من شتات أفكاري
عدت إلى الجلسة ما قبل الأخيرة
بعدما يئس الجمع ...كنت أرى الحزن على وجوه إخوتي ...حزنا ممزوجا بتساؤلات كثيرة تكاد أعينهم تبوح بها
ولا أخفي مدى تأثري الشديد بتلك اللحظات القاسية علي وعليهم
لم أكن أرى وجها أكثر تبسما وإشراقا سوى الجد الذي طفق يرتب الإجراءات المستقبلية مع والدي ...انعزلا في ركن بعيد
كنت ارقب المشهد غير مصدق أو خائف من تراجع في أي لحظة

عاد الركب من حيث أتوا ..فانزويت في ركن انهمرت دموعي كالسيل ألما لفراق إخوتي ..لاشك أنني بحاجة إلى مزيد من الوقت لأتناسى ما حلّ بي
كنت مدركا أنني أمام تحدٍّ صعب يتطلب مني عزما واصرارا...دفعني إلى تناسي الجراح كلها والتفكير في الهدف البعيد الذي وضعته نصب عيني

أعددت كل وثائقي للاندماج في البيئة الجديدة خاصة في المجال الدراسي
كل هذا لم يكن لأنجح فيه أبدا
إلا بتوفيق من الله ومساعدة جدّي .....استطعت الاندماج بوقت قصير للغاية ..
توالت السنوات وكنت على موعد مع أحداث وُشمت في ذاكرتي

ساعدني جدّي على التعمق كثيرا في اللغة العربية ..ومن فرط حبي له كنت ألازمه في كل حركاته وكأنني ظله أحاول تعلّم كل شئ ..وأسأله عن كل شئ لم يدّخر جهدا في الإجابة ...مما جعل مداركي تتسع وبسرعة مفرطة وكأنه يريد إكمال مهمة في أقرب وقت